جريدة الرياض بتاريخ الخميس 23 رجب 1427هـ العدد 13933
(( شاعر يصنع من الأحداث الصغيرة والعابرة الروعة والجمال ))
كانت قصيدة «ونيت البدو» هي أول قصيدة اطلع عليها من انتاج الشاعر ضاوي العصيمي، وقد دفعتني تلك القصيدة إلى البحث عن قصائد العصيمي، والحرص على الاطلاع عليها بقدر ما تسمح لي الفرصة؛ وبعد ذلك كونت فكرة عن ضاوي العصيمي مضمونها هو انه شاعر مبدع وقادر على أن يخلق من الأحداث الصغيرة والعابرة – التي قد تمر على كل واحد منا – قصائد في غاية الروعة والجمال، فعلى سبيل المثال نجده قد أبدع لنا بعد زيارته لعيادة طبيب العيون قصيدة جميلة اسمها «لعبة الدكتور»، ويقول في تلك القصيدة:
يوم ابتدت لعبة الدكتور بعيوني
وحضر جهازه وأدواته مبريها
سألت ربي ذليل شاحب لوني
يا لله وداعتك بعيوني.. وتشفايها
أخاف من «ليزره» لا يخترق نوني
وإلا خطا يرخي المشرط ويعميها
ويعبّر الشاعر بعد هذه الأبيات عن خوفه من فضول الطبيب، وخوفه من أن يدفعه فضوله إلى البحث عن الأسرار التي تحتفظ بها عيناه، وأهمها بالنسبة له هي صورة المحبوبة، ويوصيه بأن يحرص على سر تلك الصورة العزيزة التي احتفظ بها وخبأها عن أعين الناس إن قدر له أن يجدها، وألا يفشي سرها لضعاف النفوس، ويذكره في ختام القصيدة بأن الأمانة هي أبرز الأمور التي ينبغي أن يلتزم بها الطبيب:
سري وداعتك وانت اليوم ماموني
مهنتك معنى الأمانة وانت راعيها
استر ما واجهت يا دكتور بعيوني
تكسب جميله وأنا ماني بناسيها
٭ ومن قصائد ضاوي الجميلة التي يقوم بناؤها على حدث بسيط أيضاً، قصيدة «ونيت البدو» التي أشرنا إليها سالفاً، فهذه القصيدة تصور لقاء عابراً جرى بين الشاعر وبين «بدوية» صادفها الشاعر تقود سيارتها، ويقول العصيمي في مطلع تلك القصيدة:
يا ونيت البدو ما شفت أنا مثلك ونيت
فارق شكلك ولونك ومشيك بختره
والله إني من لمحتك على الضيحه دريت
إن باللوحات تصدير والسايق «مره»
وفز لك قلبي على غير عاداته وجيت
جيت حتى دقت المنظره بالمنظره
إضافة إلى التصوير الجميل لذلك اللقاء العابر، ووصف الشاعر للمشاعر والاحاسيس التي انتابته أثناء لقائه بتلك البدوية التي يصفها بأنها «تغرق أعتل شنب» في بحرها، ينقل لنا العصيمي الحوار القصير والمكثف الذي دار بينه وبينها، حيث يقول:
قال خير؟ وقلت طرقي على نارك ضويت
قال حدك لا تعداه والهرج اقصره
قلت أنا بنشدك عن شيء لكني نسيت
لا على فكره… ضحاياك في كم مقبره؟
قال: عفواً يا غريب تماديت وغويت
المزون المقفية مزنها لا تسبره
٭ أما القصيدة التي أود الوقوف معها قليلاً فهي قصيدة «أفكار»، ليس لأنها أفضل قصائد العصيمي واجملها، ولكن لأنها حظيت باهتمام وقبول كبيرين من قبل المتلقين، وقام عدد من الشعراء بالتفاعل معها ومجاراتها؛ فلو نظرنا إلى هذه القصيدة لوجدنا عدة خصائص أو سمات يمكن لنا القول بأنها أسهمت إسهاماً كبيراً في نجاحها؛ ولعل أبرز تلك السمات هي اللغة البسيطة التي استخدمها الشاعر، فلغة هذه القصيدة وقافيتها أيضاً توحي للمتلقي بأن الشاعر قد أبدعها بشكل عفوي وتلقائي، وهذه السمة سمة رئيسية تميز العديد من القصائد التي تتناول مواضيع وقضايا الواقع الاجتماعي، يقول العصيمي في مطلع تلك القصيدة:
قالوا نبي من قصايدك الغراميه
قلت الهوى والغزل قفلت بيبانه
أنا من الليله أفكاري اسمنتيه
حديد وبلك واسمنت وخرسانه
ولا عاد لي هم شاغل غير هاذيه
قواعد البيت وجسوره وعمدانه
إلى جانب اللغة البسيطة والعفوية لهذه القصيدة، استطاع العصيمي تصوير معاناته مع البناء بأسلوب جميل يجمع بين الجد وبين الفكاهة، ونقل لنا مراحل معاناته من بداية حلمه بامتلاك «فيلا» تشبه «الدانه»، وصولا إلى المرحلة التي تحطمت فيها تلك الأحلام «الوردية»، وأصبح هدفاً لألسنة الشامتين وسخريتهم:
أحلم بفلا على ذوقي خياليه
تكون بين المباني كنها دانه
أنسى بها أيامي اللي شيبت فيه
ويصير لي مع هوامير البلد خانه
أحلام مير الحقايق جات عكسيه
وأصبحت مديون والجيران ديانه
ومن السمات التي أضفت على هذه القصيدة طابع الحيوية والمرح قدرة الشاعر على نقل المواقف والشخصيات التي تعامل معها إلى المتلقي بصورة واضحة، حيث نستمع في هذه القصيدة إلى أصوات عديدة أبرزها صوت المقاول الذي غيّر من تعامله، وتحول إلى ما يشبه الوحش بعد نفاد أموال الشاعر:
وقام المقاول يهدر وتضرس لحيه
باحت فلوسي وقام يحد نيبانه
من عقب ماني بعمه نعنبو حيه
اليوم ما كني إلا ضمن صبيانه
إن قلت راع الظروف وزين النيه
وإصبر ويا صلك حقك.. حومر أعيانه
قال: إيه هاذي سواليف الحراميه
هات الدراهم ترى الأخلاق تعبانه!
ويستمر الشاعر بعد هذه الأبيات في شرح معاناته، وينقل لنا كذلك صوت التاجر الذي منعه من أخذ ما يحتاج إليه بحجة ان دفتر الديون قد امتلأ بديون أمثاله من الفقراء:
عودت أعزم وأروح للشريطيه
وآخذ ونيتين والتقسيط بثمانه
وأعطي المقاول ثمنها شبه جبريه
والراتب أقساط من راسه لكرعانه
والورع وأمه يبون أشياء ضرورية
والتاجر احتدني من دون دكانه
يقول للفقر في نظرتك ماريه
ودفاتر الدين من شرواك مليانه
وعودت لا جبت لاهاذي ولا ذيه
وعزي لمن راح وانكف ما قضى شانه
ويصور لنا الشاعر أيضاً معاناته بعد تخلي المقاول عنه، وينقل لنا صوت بعض الشامتين، الذين تهكموا من وضعه ومن معاناته مع البناء:
مغير أروح بهم في كل عصريه
للبيت ونمتر الأضلاع وأركانه
ونحاول نعيش وسط أحلام ورديه
ما بين غرفة فلان وغرفة فلانه
وإن مرنا من جماعتنا الزراويه
لا شافني قال ذا ضاوي وورعانه!
يبغى الفوائد وحوّل له بدهويه
وقام يتهكم وفيّ يجرب السانه
٭ وقد تكون هناك عوامل أخرى لم أفطن لها – غير العاملين اللذين ذكرتهما وهما بساطة اللغة وتعدد الأصوات – ساهمت في نجاح هذه القصيدة، وكما نلاحظ من هذه القصيدة، ومن القصيدتين اللتين استعرضنا بعض أبياتهما، فالشاعر ضاوي العصيمي شاعر مبدع، وشاعر يمتلك القدرة على خلق الشعر الجميل والنابض بالحياة؛ ولا نجد في شعره عموماً أي قصيدة «اسمنتيه» جامدة هامدة، بل نجد قصائد رائعة تحمل روح الشعر ونبضه، ونجد شاعراً لا يقلد الآخرين، بل يسعى إلى تكوين أسلوب خاص به في مجال الإبداع الشعري.
بداح بن فهد السبيعي
جريدة الرياض